لم أجرب كثيرا من الأحزاب والتنظيمات السياسية، كنت معصوما من الدخول فيها، جرّبتها مرتين؛ الأولى عندما كنت عضوا أحاول أن أكون نشيطا في الكتلة الإسلامية في جامعة النجاح الوطنية، دخلت الجامعة وأنا أظن نفسي منتميا لحركة المقاومة الإسلامية حماس، وكان أصدقائي في تلك الفترة جلهم شباب "حمساويون" متحمسون، كنا ندخل في مهاترات كثيرة مع آخرنا غير الحمساوي (بداية التسعينيات)، وخاصة حول عملية السلام ومؤتمر مدريد، وكان قاموسنا الاصطلاحي مراهقا يزخر بألفاظ الخيانة والبيع والجاسوسية والشتائم.
كنت أوزع على أصحابي في القرية يومذاك مجلة "فلسطين المسلمة" التي كان يصدرها الإخوان المسلمون من لندن، وكان شباب الكتلة الإسلامية يوزعونها من خلالنا على قاعدة أوسع من الشباب الحمساوي، لم أعد أرى الآن المجلة، وأظن أنها ما زالت تصدر، ومكثت طوال ثلاث سنوات جامعية منتميا للكتلة الإسلامية، وأشارك في اجتماعات قاعدتها الطلابية. اختلفت مع قيادة الكتلة في الجامعة حول كثير من القضايا السياسية، دون أن أنهي صداقاتي مع قيادات الكتلة، وما زلت إلى الآن أتمتع بعلاقات جيدة مع من بقي منهم على قيد الحياة، إذ إن كثيراً منهم قد تم استهدافه واستشهد في عمليات إجرامية صهيونية.
انتهى بي المقام "دارساً" في حلقات حزب التحرير، كنت إذ ذاك مدافعا عن حركة حماس، حتى أن بعض (التحريريين) كان يضيق ذرعا بي، ويصفني بـ"الحموسي الصغير". تدرجت في حلقات حزب التحرير دارسا وقارئا نهما، ومتقنا لعملية "التفكير الحزبي"، حتى أنني كنت أكثر الأعضاء الدارسين نشاطا وقراءة، وربما أكثر من الحزبيين أنفسهم، حتى التهمت كل أدبيات الحزب المعتبرة، والكتب التي كان يُطلق عليها كتب شرح الأفكار. وبذلك انتقلت من مرحلة كوني "دارسا" أتلقى الأفكار من مشرف الحلقة إلى "حزبيٍّ" أمارس دور "الإشراف" على الحلقات، فدرّست الشباب في حلقاتٍ الفقهَ والتثقيفَ الحزبيَّ والسياسةَ والاقتصاد. وكنت بارعا في الشرح والتوضيح خلال الحلقات، أكثر من كوني خطيبا مفوها، فأنا إلى الآن لا أصلح للخطابة نهائيا.
أخذت أنشر في مجلة الوعي الذي يصدرها "مجموعة من الشباب الحزبي" في لبنان. نشرت مقالتين وقصيدتين على ما أذكر. وكتبت دروسا وألقيت محاضرات شهرية للحزب، واعتُمدت محاضرا بعد مجموعة من الجولات لاختيار محاضرين حزبيين على مستوى "ولاية فلسطين". وهكذا أصبحت "حزبيا" فاعلا، وتسلمت مهامَّ كثيرة تنظيمية وإدارية. واستدعيت لمقابلة المخابرات الفلسطينية مرتين على إثر ذلك، وكنت قد استدعيت من قبل لمقابلة المخابرات (الإسرائيلية) على إثر نشاطي في جامعة النجاح الوطنية، وتعرضت أيضا للإصابة في مدينة نابلس بشظية من رصاصة حية وأنا أشارك في مسيرة للحزب في ذكرى هدم الخلافة، بتاريخ 2-7-2011.إذ ما زال التاريخ عالقا في ذاكرتي لن أنساه!
لم أتوقف خلال مسيرتي الحزبية عن ممارسة غواياتي الأدبية، وبقيت أقرأ إلى جانب الكتب والنشرات الحزبية الكتب الأدبية والمؤلفات اللغوية والدواوين والكتب المترجمة، وكنت أفصل فصلا حادا بين الفكرة الحزبية والمفاهيم الأدبية، وكنت أرفض دوما كتابة القصيدة الحزبية والسياسية المباشرة، أو محاكمة الأدب وخاصة الشعر بناء على المفاهيم الحزبية، وأذكر أنني تعرضت في حينه عندما كنت أنشر بعض القصائد إلى التعنيف والاتهام "فربما كنت أحد الأدباء الشيوعيين" كما قال أحد المعلقين على قصيدة لي عن القدس استعرت بها مصطلح "المصلوب" للدلالة على ما يتعرض له أهل المدينة. وما زلت أتمتع كذلك بصداقات كثيرة مع كتاب (غير إسلاميين) علمانيين وشيوعيين، مع أنني أكره العلمانية والاشتراكية والديمقراطية والديكتاتورية التسلطية حتى من داخل حركة الإسلام السياسي نفسها، وأومن إيمانا عميقا أن الإنسان حرّ، ليس لأي مخلوق أي حق لممارسة الوصاية عليه.
بقيت على هذه الحال من توجس الوقوع في شرك الأدب، حتى انغمست انغماسا كليا في كتابة مجموعة من النصوص الأدبية على (الفيسبوك) تحت عنوان "همسة حب صباحية"، إنّ مثل هذه الكتابة لم ترق لمسؤولي الحزب، إذ لا يليق بي وأنا "الحزبيّ" النشيط ومشرف الحلقات، والمحاضر المعتمد، أن أتورط في كتابة الغزل. يزورني في منزلي مسؤول كبير في الحزب، ويطلب مني بصريح العبارة التوقف عن "ممارسة" هذا النوع من الكتابة، وشرع يذكرني بالحلال وبالحرام والعمل المنتج والكتابة الفكرية، أستجيب مؤقتا وأتوقف!
ولكنني كنت قد شارفت على الخراب النهائي. والقلب أصبح مخمورا بالحب، والعقل لا يستجيب إلا لفكرة المرأة التي أخذت تتمدد في كياني كله. صرت أمتنع تدريجيا عن حضور الحلقات وأعتذر عن عقدها في بيتي. حتى دقت ساعة الصفر، وأعلمت المسؤول المحليّ أنني لم أعد أرغب في الاستمرار. هنا توقفت عن ممارسة السياسة، وعن قراءة أفكار الحزب، وكتابة المقالات الفكرية، ولم تعد تصلني مجلة الوعي أو المنشورات الحزبية، وصارت علاقتي بأعضاء الحزب حيادية، فلم أكتب عن الحزب منذ انسلخت عنه غير مرة أو مرتين ليس دفاعا عن الحزب كحزب وإنما كانت الأفكار قد تغلغلت وأصبحت "مفاهيم أعماق" على حد توصيف الحزب، أمارسها كلما وجدتُ أنّ الضمير الأخلاقي المحنط في داخلي يستوجبها.
والآن، ماذا تبقى من ذلك التحريري (الآبق) الذي كنته يوما أم أنني على رأي الأستاذ محمود شقير "تحريري معالج"؟ منفتح، وأتقبل الآراء وأحترمها؟
ماذا تبقى من (تحريريتي) بعد ذلك الكم المهول من القصائد والنصوص الوبرية أو المائية (الشبقية) والكتب المنشورة التي لا تشير إلى أنني كنت يوما "تحريرياً"؟ هل بقيت (تحريرياً) وأنا أحاول التمرد على سبعة عشر عاما قضيتها في حزب التحرير دارسا وقارئا ومشرفا، وفي موقع متقدم في الصفوف الأولى للحزب؟
أظن أن المسألة شديدة التعقيد. ولكنني لا أرغب في قول المزيد حول هذه التجربة المهمة في حياتي التي تركت بصماتها الفكرية في شخصيتي الأدبية والفكرية، مع أن كثيرا من المياه غسلتني ولكنها لم تستطع النفاذ إلى أعماقي، ولعلني لا أريد التخلص من هذا الإرث العظيم الذي أكنّ له كلّ الاحترام، وجعلته غصبا عن النواميس الحزبية متصالحا مع فكرة الحب، إذ أنظر إليهما متفقتين، لم ولن يسببا لي انفصاما في الشخصية أو صراعا نفسيا فكريا. إنني أعيش مع تجاربي كلها الحزبية والوجدانية بتوافق تام.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق